rewaqi.com

المعرفة فن، لكنّ التعليم فن آخر قائم بحدّ ذاته.

مشهد حقيقيّ

غرفة صغيرة المساحة كبيرة بكل معاني الإنسانية والوفاء وبراءة اثنتين وأربعين سنة، سرير بسيط لكنه مرتب تحت النافذة، وإلى اليسار عند الحائط خزانة فيها ملابس وفوقها مجموعة من الأكياس، حتى اللحظة لا أدري ما الذي كان مخبئا فيها، وإلى جانب تلك الخزانة مجموعة ما تبقى من رائحتها العبقة.

على ذلك السرير الذي يحاكي في دفء مشاعره شقائق نعمانية، كانت تتوسد إبر السكّر وتلتحف آلام الضغط وتتنفس مرارة انحباس الهواء الذي عاندها كثيرا في تلك الليلة .

في كل مرة كنت أزورها في الإجازة الصيفية كانت تستقبلني بدموع حبيسة عام كامل في عينيها الغائرتين، تخبئها لهذه اللحظة، في موقف تتداخل فيه المشاعر وتسقط على وريقاتها لآلئ استثنائية لتعلن عناقا طال انتظاره.

وفي مرة وعلى غير العادة كانت الرحلة الأخيرة التي خطفت آخر إشراقة لوجهها في حياتي، قبلتها قبيل الرحيل بساعتين، وعانقتها – في داخلها كان عناقا قصيرا– وكأنها كانت تشعر بأنه العناق الأخير ولكنها لم تقدر على البوح بذلك، وقبل عدة أيام أخذوها إلى المشفى عنوة، وكأنها أيضا كانت تشعر بأنها اللحظات الأخيرة في حياتها، فيأتيني الخبر مطلقا رصاصة الآه الأكثر وجعا من كل الرصاصات التي أصابتني طيلة حياتي، فكان العناق الأشد والأقوى تحت الثرى، كان العناق الأخير الذي حمل بين جوانحه كل القهر والتحسر على فراقها.

طفولتك يا رائدة كانت زائفة، وشبابك كان ضربا من الخيال، حتى مرضك كان مغطى بلا شيء، لكن حياتك بأكملها كانت فصلا حقيقيا، وقلبك لم ينبض يوما إلا بالآلام، لكنني لم أستطع الفهم إلا عندما كان العناق الأخير..

أرجوك ، أسعفيني بضحكة ولو مزيفة حتى أكمل ما تبقى من حروف يتيمة!!