rewaqi.com

المعرفة فن، لكنّ التعليم فن آخر قائم بحدّ ذاته.

نبض القلب

الساعة الرابعة عصرًا، زِقاقُ الحيّ يداعب بعض قُصاصات الأوراق التي سقطت سهوًا على حين فرحةٍ من كُرّاسة أحد التّلاميذ وهو عائدٌ من المدرسة في ساعة مقدّسة عند كلّ أطفال الحيّ.

تلك السّاعة كانت استثنائيّة في حياتي وحياة جيلٍ بِأَكْمْلِه. كنّا وقتها نظلّ قَيْدَ مشاعر مُرَكّبة تركيبة فريدة من نوعها، فيها السّعادة والحزن وكَمٌّ هائلٌ من الدموع المتناقضة، هذه التّركيبة العجيبة كانت مرتبطة بِشَارَةِ مسلسل كرتونيّ، ربّما بائع الحليب، أو ريمي الفتى الشريد، أو صاحب الظلّ الطّويل أو سالي، أو عدنان ولينا، ذلك الفتى الذي صنع بأحزانه على فراق جدّه قارب الهروب من تلك الأحزان ليصطدم بعدها بعالم شرير يريد استغلال الطاقة لتدمير كوكب الأرض، وربما كانت الشارة لمسلسل الليدي أوسكار (أوسكار فرانسوا دي جيرجاي)، وهي فتاة بالمناسبة، شَبّت على فنون القتال والمبارزة والفروسيّة، لتصبح في عمر الرابعة عشر قائد حرس القصر. كانت فتاة مشاكسة حقًّا.

تلك المسلسلات الكرتونيّة وغيرها الكثير، كانت جزءًا مهمًّا جدًّا في تنشئة ذلك الجيل بكلّ ما تحمله من رسائل ومعانٍ، والّتي كانت تنساب في وجدان الأطفال ووعيهم، لتنعكس بعد ذلك على سلوكهم، وفوق ذلك كلّه على صحّة ألسنتهم الّتي كانت تحاور بعضها في الحيّ وفي المدرسة وعلى أطراف الزّقاق وعتبات المنازل حول أحداث مسلسل ما، والتّنبُّؤات بما ستَؤول إليه مُجرياتُها.

يقول الفنان طارق العربي طرقان، وهو مؤلِّف موسيقي يمتلك أكثر من 1000 أغنية وشارة، يقول: إنّ مسلسلات تلك الفترة كانت تعزز المفاهيم الإنسانية، بما فيها الشهامة والأمانة والعدالة والقيم المستمدة من البيئة العربية، معتبراً أن الأعمال القديمة وشاراتها وأبطالها كانت مدرسة للأجيال وتساعد الآباء والأمهات في التربية، وكانت مفرداتها تعلم اللغة العربية والنطق الصحيح، وتتحدث كلماتها عن حماية الطبيعة والأرض وتشجِّع على المحبة والخير وحب العمل والتميز وعدم الاتكال على الآخر. مؤكداً أن الطفل العربي بحاجة ماسة إلى محتوى يهتم بصناعة المضمون الذي يبث قيماً مجتمعية.

نعم، الطفل العربي بحاجة ماسة إلى محتوى يهتم بصناعة المضمون الذي يبث قيمًا مجتمعية، وهذا بالفعل ما كنا نعيشه ونتغلغل فيه عندما كنّا صغارًا، فكلّ مسلسل كان يحمل في أحداثه وحكاياه معجمًا لغويًّا بأكمله، هذا من حيث اللغة، أما من حيث العلوم الأخرى، فعلى سبيل المثال (اسألوا لبيبة)، تلك التي عرفت بعبارة: فإن ظهرت لبيبة فاسألوها، فلُبَّ القول ما قالت لبيبة، هذه العبارة التي ما زالت محفورة في ذاكرة تلك الأجيال، والتي اندرج تحتها تنبّؤ لبيبة لما سيحدث للتعليم قبل ثلاثين عامًا من الآن، كما حملت بين حروفها ومفرداتها قصة عالم ما لم نكن لنعرفه – ونحن في تلك السن- لولا لبيبة، فقد كانت في كلّ مرة تأتي بعالم جديد وبتجربة جديدة، وليس ذلك فحسب، بل كانت تشرح ولو بشكل بسيط كيفية الوصول إلى نتيجة تلك التجربة، كلّ ذلك في قالب لغوي أراه عن مسافة ثلاثة عقود قالبًا لغويًا فريدًا من نوعه.

ومن الجدير بالذكر أن لا ننسى دور الآباء والأمهات في متابعة تلك الأجيال التي لم تستسلم لأي شيء في سبيل التّمسّك بكل حدث أو حتى حوار صغير لتلك الشخصيات التي تمثّلت -عُمْرًا- حقيقًة وواقعًا في ذات الأحياء والأزقة العفوية عفوية ناسها وأهلها. هذا الدور العظيم الذي قاموا به لدرجة اليقين بأن كل ما شاهده الصغار لم ينحرف عن مساره الصحيح، خاصة مع ما يتعارض مع قيمنا وعاداتنا، على الرغم من أنّ تلك المسلسلات والبرامج التي كانت تعرض في ذلك الوقت ربما جعلت الطفل يسبق أبويه في اللغة والعاطفة والعقل، ومع ذلك لا يمكن ولا بأيّة إهمال دوريهما في مراقبة أبنائهم تلك المراقبة التي لا بد لها من أن تثمر الطيب.

وعليه، كان لا بد لأي راحل ومتنقل عبر هذه الأزمان، أن يجزم ولو عنوة بأنّه شتّان ما بين سطور الماضي النّحيلة عظيمة التنظيم، والتي كانت تسردها لنا تلك الشخصيات، وصور الديجيتال المزخرفة بإطار "البيزنيس"، والأموال التي التقطتها كاميرا واقع الرفاهية، والبسطة الاقتصادية، وبريق العسجد والفضة، وبالتالي ألوان الفركتوز الزاهية الجذابة، ومشتقات اليراع.

هي أشياء جميلة جدًّا، تقفز إلى الذّاكرة بِكُلّ عَفَويّة وحنين جارف إلى ذلك الزّمن العفويّ بكلّ ما فيه من نَقاء.

إنّها نبض للقلب